قامت الشريعة المحمدية على أفضل التشريعات وأكملها وأصلحها للبشرية. فقد عالجت الشريعة المحمدية السمحة جميع جوانب الحياة من سياسة واجتماع واقتصاد وعلاقات دولية وعسكرية وما بينها بشكل يلبي الفطرة ويراعي احوال الزمان والمكان واحوال الضعف والقوة للافراد والامة. ومما ابتليت به امة محمد صلى الله عليه وسلم أن قدر لها وجود من لا يرى جمال هذا الدين ممن يخالطون ويختلطون بأهل الاسلام في ديارهم. وقد أخبرنا الله تعالى في محكم التنزيل أن أصناف الناس ثلاثة: إما مسلمون، أو كفار، أو منافقون. وكان ذلك التبيان من الله تعالى حال هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة، تنبيهاً للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته للمواجهات القادمة بين الأمة الناشئة على الشريعة الربانية وأنواع الكفر والنفاق. وفي أول وصف وتبيان للمنافقين من الله جل جلاله، اوضح الله تعالى أنهم يدعون الاصلاح وينفعلون له بأدوات الافساد: " واذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون* الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون". ولخطورتهم، فإن الله تعالى قد حكى صفاتهم وبينها احسن تبيان. ولعلي استعرض خطر المنافقين على الامة الاسلامية واستعرض بعض صفاتهم واحوالهم وطرق تعايشهم في المجتمعات الاسلامية لنتعرف عليهم بشئ من العمق والسبر.
ما ابتليت أمة الاسلام بشئ أعظم خطرا من المنافقين. يقول الله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم وموجها له ولأمته من بعده: "هم العدو فاحذرهم"، فهم ليسوا فقط أحد الأعداء، وإنما وصفهم الله بأداة "ال" التعريفية، أي هم العدو الحقيقي الذي قد يفتك بكم إن أنتم لم تحذروهم، هم العدو الخفي الذي يسري في جسد الامة بالمرض والمؤامرات والكيد الدفين. لا ننكر أن أعداء الملة كثر، فمنهم اليهود والمشركين، والذين وصفهم الله بقوله:" لتجدن اشد الناس عدواة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا"، ومنهم النصارى ، لكن هذا العداء ظاهر معلن لا يتنازع في حقيقته المنصفون. لكن العداوة المؤثرة في كيان الأمة ونسيجها هي عداوة المنافقين لدين الله وشرعه، فهي عداوة خفية لبوسها الاصلاح والتطوير والتنوير. تكمن خطورتها في أنها عداوة تنطلق من عقر دار المسلمين، وتتكلم بألسنة أهل الاسلام، وتمارس جانب من شعائر الاسلام الظاهرة "واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى" مما يتسبب في تلبس حالهم على عامة المسلمين، فعند مناداتهم وصراخهم بدعاوى الاصلاح المنطلقة من مناهج الغرب أو الشرق الفاسدة والمتجاهلة لحقائق الاسلام وتشريعاته، تجد أن طائفة من المسلمين يستمعون لهم ويقتنعون بقولهم ويدافعون عنهم ، انخداعاً بحالهم ولقلة بضاع مريديهم ومستمعيهم. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان".
إن عداوة المنافقين عداوة عناد وكبر وحب للشهوات. فالمنافقون جمعوا بين كفر العناد والكبر وبين فسق مرضى القلوب من المسلمين وغيرهم بحبهم للشهوات والدعوة اليها وحب نشرها بين المؤمنين. ولذلك قال الله تعالى عن حالهم في الدار الاخرة: "إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار"، فهم جمعوا انواع الكفر والظلم والفسق. المنافقون درجات. فمنهم المنافق الذي رأى الحق وعلمه وأعلن اسلامه ثم كفر في الباطن ولم يرجع للإيمان حتى توفاه الله ، وفي وصفهم يقول الله تعالى:" مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون". فهم أبصروا ما حولهم بنور الحق والقرآن وعلموا حقيقة التكليف والأمانة التي عرضها الله على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان، وعلموا أن الله له ملك السماوات والارض وأن له الحكم والتحاكم وأن الآخرة حق وأن الله يبعث من في القبور، لكنهم بكبرهم وعنادهم فرطوا بالنور الذي آتاهم الله أياه، فذهب الله بنورهم،فأصبحوا ولا نور لهم ، فهم يتلمسون النور في غير هدي الله ، من مناهج شرقية وغربية.
ومنهم من رأي الحق وعلمه وأسلم ثم تردد بين الاسلام والكفر، فتارة مع المسلمين وتارات متتاليات مع كل ناعق ضد الاسلام وأهله "مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء". وفي وصفهم يقول الله تعالى: "أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون اصابعهم في آدانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين، يكاد البرق يخطف ابصارهم كلما اضاء لهم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وابصارهم ان الله على كل شئ قدير"، فهم وهم يعيشون ضمن الرحمات الربانية المتمثلة في التشريعات المحمدية، وما يخالطها من وعد ووعيد في احكام الدنيا والآخرة، يبصرون الحق لحظات كلحظات البرق في ظلمة الليل البهيم يمكنهم من المشي القويم، ولكنهم يعيشون غالب أحوالهم في الظلمات بكل ما فيها من خوف وضياع، مع اصرارهم على عدم اتباع الحق وسماعه من خلال رعود زواجر القرآن، مما يجعلهم لا يدرون أين السبيل، فيذهبون ذات اليمين وذات الشمال، فتتلقفهم مناهج الشرق والغرب، ظلمات بعضها فوق بعض. ترددهم بين الحق تارة والباطل تارات، لا يقلل من عداوتهم للاسلام وأهله أو يشفع لهم، بل هي من الأمور التي تزيدنا حذرنا منهم وخوفنا من تأثيرهم على نسيج وبناء مجتمع خير أمة اخرجت للناس. فمن حاله كذلك، يوشك أن ينخدع به طائفة من المسلمين لما يرون في قليل كلامهم وافعالهم من موافقة الاسلام وأهله وحبه لبعض ما تدعوا اليه الشريعة المحمدية، متناسين أو غافلين عن خطورة دعواته وكلماته الأخرى ذات الاضطراد والمنهجية والتتابع في الباطل، فيلتبس عليهم الحق بالباطل.
وللحديث بقية، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمين،،،،،